الخلفية الدينية والأهداف الاستعمارية كانت سبب صدور وعد بلفور – أعداد كمال نصار
صدر الوعد البريطاني الشهير بمنح اليهود وطناً قومياً في فلسطين في الثاني من تشرين الثاني نوفمبر 1917 ؛ حمل الوعد توقيع وزير الخارجية في ذلك الوقت آرثر بلفور. من هو بلفور؟ وما هي خلفية الوعد الذي أصدره؟ كان بلفور من المؤمنين بأن التاريخ ليس سوى أداة لتنفيذ الهدف الإلهي. وان الإنسان مكلف بالعمل على تنفيذ هذا الهدف وان أول ما يتطلبه منه ذلك، الإيمان أولا بأن ثمة هدفاً إلهياً، وثانياً بإمكانية تحقيق هذا الهدف اياً تكن الصعوبات. آمن بلفور كما أوضح في كتابه العقيدة والإنسانية ( « Theism and Humanity « ) إن الله أغدق على اليهود وعداً بالعودة إلى أرض الميعاد، وان هذه العودة هي شرط مسبق للعودة الثانية للمسيح. وان هذه العودة الثانية تحمل معها خلاص الإنسانية من الشرور والمحن ليعمّ السلام والرخاء مدة ألف عام تقوم بعدها القيامة وينتهي كل شيء كما بدأ. اكتسب بلفور هذه الثقافة من عائلته، وخاصة من والدته التي تركت في شخصيته الدينية بصمات واضحة من أيمانها بالعقيدة البروتستنتية المرتبطة أساساً بالعهد القديم وما فيه من نبوءات توراتية. ولذلك فان بلفور عندما صاغ الوعد بمنح اليهود وطناً في فلسطين، كان يعتقد انه بذلك يحقق إرادة الله، وانه يوفر الشروط المسبقة للعودة الثانية للمسيح وبالتالي، فانه من خلال مساعدة اليهود على العودة فانه يؤدي وظيفة العامل على تحقيق هدف إلهي. مع ذلك لم يكن بلفور قادراً على أن يجعل من الوعد أساسا مركزياً في السياسة البريطانية لو لم يكن يشاركه في ذلك شخص آخر هو لويد جورج رئيس الحكومة في ذلك الوقت. فقد ذكر لويد جورج في كتابين له هما «حقيقة معاهدات السلام» وذكريات الحرب» إن حاييم وايزمن الكيميائي الذي قدم خدماته العلمية لبريطانيا في الحرب العالمية الأولى هو الذي فتح له عينيه على الصهيونية، حتى أصبح أكثر صهيونية من وايزمن نفسه. وهكذا عندما تشكلت الحكومة البريطانية من لويد جورج رئيساً ومن آرثر بلفور وزيراً للخارجية، بدا وكأن كل شيء بات مؤهلاً لتمرير بيان الوعد. في عام 1952 نشرت وزارة الخارجية البريطانية وثائق سرّية عن فترة 1919 - 1939، بما فيها تلك التي تتعلق بتوطين اليهود في فلسطين.. ويتضمن المجلد الرابع من المجموعة الأولى، في الصفحة السابعة نقلاً عن مذكرة وضعها آرثر بلفور وزير الخارجية البريطاني في عام 1917 ما يأتي : «ليس في نيّتنا حتى مراعاة مشاعر سكان فلسطين الحاليين، مع إن اللجنة الأميركية تحاول استقصاءها. إن القوى الأربع الكبرى ملتزمة بالصهيونية. وسواء أكانت الصهيونية على حق أم على باطل، جيدة أم سيئة، فإنها متأصلة الجذور في التقاليد القديمة العهد وفي الحاجات الحالية وفي آمال المستقبل، وهي ذات أهمية تفوق بكثير رغبات وميول السبعمائة ألف عربي الذين يسكنون الآن هذه الأرض القديمة «. أما بالنسبة للاستيطان اليهودي في فلسطين فقد أوصى في الجزء الأخير من هذه المذكرة بما يلي: « إذا كان للصهيونية أن تؤثر على المشكلة اليهودية في العالم فينبغي أن تكون فلسطين متاحة لأكبر عدد من المهاجرين اليهود. ولذا فإن من المرغوب فيه أن تكون لها السيادة على القوة المائية التي تخصّها بشكل طبيعي سواء أكان ذلك عن طريق توسيع حدودها شمالاً (أي باتجاه لبنان) أم عن طريق عقد معاهدة مع سوريا الواقعة تحت الانتداب (الفرنسي) والتي لا تعتبر المياه المتدفقة من «الهامون» جنوباً ذات قيمة بالنسبة لها. وللسبب ذاته يجب أن تمتد فلسطين لتشمل الأراضي الواقعة شرقي نهر الأردن .
لم يكن العامل الديني السبب الوحيد وراء إصدار الوعد. كانت هناك مصالح ذات بعد استراتيجي. وقد توافق العمل على خدمة هذه المصالح ورعايتها مع الإيمان الديني بالصهيونية المسيحية مما أدى إلى الالتزام بالوعد وبتنفيذه.
اعتبر وعد بلفور جزءاً من الانتداب البريطاني على فلسطين. وهو انتداب قرره في مؤتمر سان ريمو 1920 المجلس الأعلى لقوات الحلفاء. وفي عام 1922 أقرّت عصبة الأمم الانتداب بما فيه الوعد. بعد الحرب العالمية الثانية وما رافقها من مجازر نازية، اتسع نطاق الهجرة اليهودية من أوروبا الغربية هذه المرة إلى فلسطين، وتحوّل الوعد بوطن قومي لليهود إلى دولة سرعان ما تنافست على الاعتراف بها كل من موسكو وواشنطن ومن ثم منظمة الأمم المتحدة في عام 1948. الآن وبعد مرور 95 عاماً على صدور وعد بلفور، وبعد مرور 65 عاماً على قيام إسرائيل، تجري عملية تهويد إسرائيل، أي تحويلها إلى دولة دينية يهودية لا تقبل بوجود أي عربي، مسلماً كان أو مسيحياً، كما أشار إلى ذلك وزير خارجيتها ليبرمان أمام الأمم المتحدة. وفي ذلك تأكيد جديد على أن الأسباب الموجبة لصدور الوعد ولإعلان الدولة مستمرة في ابتزاز الغرب وفي توظف تاريخه الحافل بممارسة اللاسامية أساساً لحماية التوسع الإسرائيلي وللتهويد معاً. وكأن العالم العربي هو مجرد حديقة خلفية أو صندوق احتياط يستخدمه الغرب لاسترضاء الصهيونية وليطهر ذاكرته التاريخية. وبالنتيجة، فان الغرب يعطي مما لا يملك إلى من لا يستحق. وان الصهاينة يتزلّفون إلى من اضطهدهم وأساء إليهم، ويعاقبون من أحسن إليهم على مدى التاريخ.
أعداد – كمال نصار
2 – 11 - 2014